وبينما يرى كثير من السوريين في سقوط النظام نهاية لكابوس طويل، يدرك آخرون أن إسقاط الاستبداد لم يكن سوى بداية طريق شاق نحو بناء دولة مختلفة، لا تقاس إنجازاتها بالأمنيات وحدها بل بقدرتها على الصمود والتعافي.
وما بين الفرح بسقوط منظومة حكم امتدت لأكثر من نصف قرن، وقلق مشروع من واقع اقتصادي ومعيشي معقد، تتشكل الصورة السورية اليوم باعتبارها مزيجا من الأمل الحذر والعمل التدريجي وسط بيئة إقليمية ودولية شديدة الحساسية.
على الصعيد الخارجي، لا يكاد يختلف المراقبون على أن سوريا حققت خلال عام واحد اختراقا سياسيا غير مسبوق مقارنة بسنوات العزلة التي فرضها النظام السابق.
ويرى المحلل السياسي السوري جمال رضوان أن القيادة الانتقالية برئاسة أحمد الشرع نجحت في كسر الطوق الدبلوماسي الذي لازم سوريا طوال 14 عاما، وإعادة البلاد إلى طاولة الفعل الدولي.
ويشير رضوان إلى أن استقبال الشرع من قبل قادة دول كبرى، وتوصيف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب له بـ”الصديق” و”الرجل القوي”، يعكسان رغبة دولية حقيقية في فتح صفحة جديدة مع سوريا مختلفة جذريا عن نموذج الأسد.
كما يلفت إلى أن انخراط دمشق في التحالف الدولي ضد تنظيم داعش، وبناء علاقات متوازنة مع عواصم مؤثرة كواشنطن وموسكو وباريس والرياض وأنقرة، يعد رصيدا سياسيا يمكن توظيفه لاحقا لصالح تثبيت الاستقرار وحماية السيادة السورية.
في الداخل، لا يخلو المشهد من التباين، لكنه تباين يدار اليوم في العلن، لا في الزنازين. ويرى المحلل السياسي إبراهيم العلي أن التحدي الحقيقي لا يزال متمثلا في تحويل الإنجازات الخارجية إلى شرعية شعبية واسعة، تبنى عبر مؤسسات فاعلة وتمثيل سياسي أوسع وقضاء مستقل، مؤكدا أن هذه المتطلبات تشكل مسارا طبيعيا لأي دولة خارجة من حكم شمولي طويل.
ورغم انتقاد العلي لبعض سياسات المرحلة الانتقالية، فإن مجرد تداول هذه الآراء علنا، وظهورها في الإعلام، يعكس فارقا جوهريا بين سوريا اليوم وسوريا الأمس، حين كان الرأي المخالف يعد جريمة.
أمنيا، لا يزال الواقع حساسا، كما هي حال معظم الدول الخارجة من حروب طويلة، إلا أن التحديات الأمنية تقرأ اليوم في سياق بناء مؤسسات جديدة، لا في سياق القمع المنهجي الذي ميز عهد الأسد. ويشير مفكرون ومحللون إلى أن معالجة الأخطاء والانتهاكات باتت محل نقاش علني ومساءلة مجتمعية، وهي سابقة لم تعرفها البلاد لعقود.
ويرى المفكر السوري لؤي خليل أن السلطة الانتقالية ما زالت أمام فرصة تاريخية لإغلاق الجراح، وتحصين الوحدة الوطنية، وتأكيد أن سوريا الجديدة تبنى على مفهوم المواطنة الجامعة، لا منطق الانتقام أو الإقصاء، مشددا على أن تصحيح المسار يظل ممكنا طالما بقي القرار داخل المؤسسات، والنقاش مفتوحا.
اقتصاديا، ورثت الحكومة الانتقالية اقتصادا شبه منهار، استنزفه الفساد والعقوبات وسوء الإدارة لعقود. ويوضح الخبير الاقتصادي علي عبد الله أن تعقيدات رفع العقوبات لا ترتبط فقط بالقرار السياسي، بل بمسارات قانونية وفنية متشابكة، ما يفسر بطء تدفق الاستثمارات رغم الإعلان عن نيات بمليارات الدولارات.
في المقابل، يشدد الخبير الاقتصادي غيث جزماتي على أن ما تحقق خلال عام فاق التوقعات، سواء من حيث إعادة هيكلة الاقتصاد، أو إطلاق مسار إصلاحي واضح المعالم، قائم على الشفافية وجذب الاستثمارات وإدارة الموارد بأسلوب حديث، معتبرا أن المؤشرات الإيجابية ستنعكس تدريجيا على الواقع المعيشي مع اكتمال رفع العقوبات واستقرار البيئة الأمنية.
على المستوى المعيشي، لم يخف الصحفي حسن ديب صعوبة المرحلة على المواطنين، في ظل قرارات اقتصادية قاسية وارتفاع تكاليف الحياة، لكنه أشار في الوقت ذاته إلى أن المزاج العام ما زال يمنح السلطة الجديدة فرصة زمنية، إدراكا لحجم التركة الثقيلة التي خلفها نظام الأسد.
ويرى الخبير الاقتصادي جمعة العمري أن الانتقال إلى اقتصاد السوق وتحرير الأسعار كان خطوة شبه حتمية بعد عقود من الاقتصاد الريعي المشوه، مؤكدا أن ثمار هذه السياسات تحتاج وقتا لتنعكس على مستوى الدخل وفرص العمل، مع دخول استثمارات جديدة وتنشيط التصدير.
بعد عام على سقوط بشار الأسد، قد لا تكون سوريا قد وصلت إلى الصورة التي يحلم بها أبناؤها، لكنها بلا شك خرجت من نفق مظلم كان بلا نهاية. فالأسئلة اليوم تطرح، والقرارات تناقش، والأخطاء تنتقد، والسلطة تراجع، وهي كلها ملامح غابت تماما في عهد النظام السابق.
سوريا اليوم لا تعيش المدينة الفاضلة، لكنها تسير للمرة الأولى على طريق قابل للتصحيح، طريق لم يعد فيه رأس الدولة إلها معصوما، ولا الدولة ملكا لعائلة، ولا المستقبل رهينة الخوف. وبين تعثر ونهوض، يظل الثابت الوحيد أن ما بعد الأسد، رغم صعوبته، أفضل من سوريا التي عرفها السوريون تحت حكمه.
المصدر: RT